إنتهينا في الجزء السابق من أن إجتهادات فقهائنا تأثرت بشدة بمواقف أهل الكتاب و غير المسلمين من الدعوة فلم تعبر جميعها عن روح الإسلام السمحة
فروح القرآن هي المساواة بين بني البشر على تعدد ألونهم و أجناسهم و دياناتهم
أما الجزية فلا معنى لهإ لا بفهمها في سياقها التاريخي
فهذه الآية نزلت في حرب الروم و حارب الرسول بعدها في غزوة تبوك – و لا سبيل هنا لسرد كل تفاصيل الغزوة – لكن باختصار أن الروم تجهزوا مع أعوانهم من قبائل العرب لخم و غسان و جذام ليحاربوا المسلمين و يفتكوا بالدعوة لجديدة
و ما إن سمع الروم بزحف النبي حتى تقهقروا و تركوا حلفائهم من العرب خلفهم لمصيرهم و هو الجزية و الإذلال و المهانة كما تقول الآية
إن إذلال المهزوم ضرورة عسكرية تمليها نتائج المعارك كي تنكسر نفس المهزوم فلا تقوم له قائمة فما بالك بدعوة ناشئة تنشد الأمان ؟
أما الجزية فخير تفسير لها أنها كانت مقابل ما يوفره المسلمون لأهل البلاد المفتوحة من حماية و منعة و أذكر هنا أمثلة لإسقاط الجزية عن الناس إذا ما شاركوا في الدفاع و الحماية
1-كتب أبو عبيدة إلى كل وال في المدن التي صالح أهلها يأمرهم أن يردوا عليهم كل ما جبي من جزية و خراج و كتب إليهم ” إنما رددنا عليكم أموالكم لأنا قد بلغنا ما جمع لنا من الجموع و أنكم قد اشترطتم علينا أن نمنعكم و إنا لا نقدر على ذلك و قد رددنا عليكم ما أخذنا منكم و نحن لكم على الشرط و ما كان بيننا و بينكم إن نصرنا الله عليهم
2-الأحناف أنفسهم يصرحون أن الجزية ما هي إلا عوضا عن نصرتهم لدار الإسلام
3- هذا بخلاف القصص التي ذكرتها من قبل عن النصارى الذين حاربوا في جيش النبي عليه الصلاة و السلام بلإضافة إلى عهد المدينة ” أن اليهود من المسلمين أمة واحدة ” فلم يأخذ منهم الرسول الجزية
هناك قصة أخرى عن عمر بن الخطاب مع قوم لم يدفعوا الجزية و لم يشاركوا حتى في الدفاع عن الدولة و هي القصة مع نصارى بني تغلب
و القصة كما يرويها البلاذري ” أن عمر بن الخطاب رضى الله عنه أراد أن يأخذ الجزية من نصارى بني تغلب فانطلقوا هاربين و لحقت طائفة منهم ببعد من الأرض فقال النعمان بن زرعة لأمير المؤمنين ( أنشدك الله في بني تغلب فإنهم قوم من العرب نائفون من الجزية و هم قوم شديد نكايتهم فلا يغني عدوك عليك بهم ) فأرسل عمر في طلبهم فردهم و أضعف عليهم الصدقة ( أي أنهم دفعوا الزكاة مضاعفة ). و في رواية أخرى أنهم قالوا له ” ضعف علينا الصدقة أما أن لم تكون جزية كجزية الأعلاج فإنا نرضى و نحفظ ديننا ”
و كانت هناك حالة مماثلة لذلك على عهد عمر أيضا فيها استبدال الجزية بزكاة مضاعفة و كان الطرف الأخر نصراني هو جبلة بن الأيهم من ملوك الغساسنة العرب
و الدكتور فتحي عثمان يرى نقطة جديرة بالبحث و الإهتمام فيقول ” إذا كان يجوز شرعا أن يدفع من صدقات المسلمين إلى غير المسلمين المحتاجين فمن باب أولى يجوز أن يشارك غير المسلمين اختيارا في أداء الصدقات للإنفاق منها على غير المسلمين و لا يشترط أن يتم هذا الإختيار فرديا و إنما يجوز ن يجري جماعيا عن طريق من يتحدث باسم الجماعة كلها
نخلص من هذا كله أن الجزية كانت مقابل الحماية و مادام غير المسلم يشترك في الدفاع عن أرضه فلا موجب لفرضها فالإسلام اليوم عزيز لا يهاب أحد .
أما عن مصطلح أهل الذمة فهو مصطلح استعملته العرب كثيرا قبل البعثة و أريد أن أشرح معناه . إن مصطلح أهل الذمة بمعناه الحالي لا يوجد في القرآن لكن في السنة المطهرة في أحاديث كثيرة منها على سبيل المثال
1- قوله عليه السلام ” أوصيكم في أهل ذمتي خيرا ”
2- الرسول نفسه يتكلم عن المسلمين فيقول ” ” أنه يسعى بذمتهم أدناهم ”
و يقول فهمي هويدي معقبا على ذلك ” أي أنه من خلال هذه الصيغة الوصفية التي أطلقت على الآخرين على لسان الرسول في عهوده دخل تعبير أهل الذمة قاموس التخاطب مع غير المسلمين سواءا في الممارسات الواقعية أو كتب الفقه المختلفة و لكن هذ التعبير و إن استخدم في أحاديث النبي و عهوده إلا أنه كان جزءا من لغة الخطاب في تعامل القبائل العربية قبل الإسلام إذ كانت عقود الذمة و أمان صنيعة التعايش التي تعارف عليها عرب الجاهلية ” انتهى الإقتباس
نعم إن كلمة أهل الذمة لا تزيد عن كونها ” حالة تعاهدية ” تعارف عليها العرب في الجاهلية في تنظيم علاقات القبائل ببعضها حتى إذا جاء الإسلام استمرت تلك الأعراف ضمن ما استمر من أعراف و تقاليد . و ما جاء في الأحاديث كان ضمن الوصف لا التعريف . فلقد عرف العرب التناصر بالجوار فكان وجاهاءهم في الجاهلية يجيرون من لجأ إليهم و استجار بهم بما يسمونه عقد الجوار أو الذمة و كانت تلك العهود من مقتضيات الشهامة و الأنفة العربية و كان على المجير أن يدافع عن المستجير و يطلب له بظلامته ” عساكم تذكرون قصة الرجل الذي جاء إلى الرسول يطلب دينه من أبي جهل و استنصر بالنبي ” أو ” عهد أبي طالب للنبي ” و استمرت تلك الأعراف في دولة الخلافة الإسلامية حتى العصر العثماني و لا يمكن فهم موقف الإسلام من غير المسلمين إلا في إطار الروح العامة للقرآن ” {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً }الإسراء70″
و أثبتت أصله السماوي ” {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ }الحجر29 و قررت المساواة بين البشر ” {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً }النساء1
و لا ننسى قوله تعالى {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ }الممتحنة8
هذا بالإضافة إلى فيض من الأحاديث
1- من ظلم معاهاد أو كلفه فوق طاقته فأنا حجيجه
2- منعني ربي أن أظلم معاهدا و لا غيره
3- من قتل قتيلا من أهل الذمة حرم الله عليه الجنة
و من وصايا أبو بكر الصديق ” لا تقتلن أحد من أهل ذمة الله فيطلبك الله بذمته فيكبك الله على وجهك في النار ” و من وصايا عمر و هو على فراش الموت ” أوصي الخليفة من بعدي بأهل الذمة خيرا و أن يوفي لهم بعدهم و أن يقاتل من ورائهم و ألا يكلفهم فوق طاقتهم ” و قد كان عمر شديد الحرص أن يتحرى بنفسه تطبيق الولاة لهذا الأمر و يروي الطبري أن عمر قال لوفد من البصرة ” لعل المسلمين يفضون إلى أهل الكتاب بأذى ؟ فقالوا ما نعلم إلا الوفاء ” و هو نفسه المعنى عندما قال الإمام على بن أبي طالب ” من كان له ذمتنا فدمه كدمنا و ديته كديتنا ” و إن التاريخ الإسلامي يمتلىء بمواقف لا نهاية لها تؤكد هذا الفهم حتى إن أحد الخلفاء العباسيين ولى نصرانيا قيادة جيش الخلافة !
لا أرى مانعا إذا من إلغاء كلمة أهل الذمة من قاموسنا اليومي إذا كانت تسبب حرجا للمسيحيين و اليهود . و بمناسبة هذا أقول إن مسيحيي مصر هم مسيحيو مصر ليسوا أقباطا و لا نصارى فالمصري هو قبطي و لا يمكن أن تختص فئة من الشعب بهذا الاسم و تكون البقية ضيوفا على مصر ! و مسيحيو مصر ليسو نصارى فلا نريد أن نصف أنهم نصارى فيلتصق في أذهان العامة ما كان من الصراع بين النبي و أصحابه معهم بمسيحيي مصر . نريد أن نبني دولة جديدة تحترم الإنسان و ترفعه إلى مكانته التي رفعه الله إليها . و على ذلك لا أرى ما يحول دون تقلد المسيحيين في مصر وظائف الجيش و بل و قيادة الجيش و بذلك تسقط الجزية ماداموا يدافعون عن أرضهم و أوطانهم فالمسيحي يخدم في الجيش دفاعا عن وطنه و المسلم مجاهدا في سبيل الله .
و أقول للمسيحين في بر مصر : أننم إخوة لنا في الوطن و لا يمكن أن تصلوا لشىء ما صممتم ان تصطدموا بالمجتمع و أسلوب الهمز و اللمز بأن مشاكلكم إنما هي بسبب أسلمة المجتمع لن يجدي نفعا إن مشاكلكم ليست بسبب الإسلام إنما بسبب رغبتكم في أن يكون لكم وضع متميز في المجتمع و لن تصلوا إلى ذلك الوضع المتميز إلا بالاعتراف بالهوية الإسلامية العربية لهذا المجتمع و أن تذوبوا في المجتمع و لا مفر من إنتهاء دور الكيسة كوسيط بين الدولة و المسيحيين و لا تأخذوا حقوقكم إلا بالجهاد في سبيلها و رحم الله مكرم عبيد عندما قال ” أنا مسلم وطنا قبطي دينا ” .
إنتهت